Friday, April 11, 2008

هو الأرض بقلم الرفيقة علا عويضة



سنُفهم الصخرَ إن لم يفهم البشرُ أنَّ الشعـوب إذا هبّت ستنتصـرُ
الإنسان، ابن الواقع الحياتي الذي يعيشه، ومن التجربة الحياتية يبني الشاعر وعيه وثقافته وأسلوبه في الحياة. والذات الشاعرة عند شاعرنا، كحال الكثير من أدبائنا، امتزجت بالواقع الحياتي بجميع جوانبه. الأرض، الوطن، الاحتلال، الظلم، السجن، النضال والانتماء، عناصر سكنت في شعره، عبَّر عن ذاته الثائرة، بل عن شعب بأكمله. وإذا سألته من أنت؟ أجابك:
وما أنا إلا بقيةُ حبٍ كبيرْتشرّد بين السجونِ وبينَ المنافيوقاتلَ إخوتُهُ ساجنيهِلكي لا يصيرَ أسيرْ(راشد حسين، من قصيدة "بقية")
بكلماته البسيطة عبَّر الشاعر راشد حسين عن ألمه، تمردّه وثورته، حمَّل قصائده الأحزان والدموع والموت من جهة، كما حمَّلها التحدي والنضال والأمل من جهة أخرى. ومن هموم شعبه التي حملها في كلماته كانت قضية اللاجئين.ففي قصيدة "أنة لاجىء" ينتقد الشاعر الأسياد وأصحاب القصور بأنها ساهمت في ضياع الوطن وكأنها باعت القضية:
كفـى يـا طفلتي لا تسأليني فمـاضينا وحـاضِرُنا عـذابُأنامُ على العظام .. عظام ِ أهلي تروَّت مـن دمـائهم الشِّعـابُإذا انتسب الملوكُ إلـى قصورٍ فليس سوى الخيـام لنا انتسابُ
وقال:
وما ثاروا على التقسيم لكـن علـى أشلائنا اختلف الذئـابُإذا مستعمرٌ طلب المـطايـا أناخـوا .. فالظهورُ له رحـابُوالنسيان لا يجدي الشاعر نفعا، فهو لا يُتقن نسيان الوطن، "علّموني كيف أنسى" يقول الشاعر، ولكن هل يُنسى الوطن؟! هل يدوس ما زرعه في شبابه؟! أأنسى؟ علِّموني كيف أنسى؟ وكيف أدوسُ مـا غَرَسَ الشبابُ
اشتد صوت الشاعر حدّة فكتب بصورة لاذعة ينتقد فيها مصادرة أراضي الغائبين في قصيدة "الله لاجىء":
الله أصبـح لاجئا يـا سيدي صادِرْ إذن حتـى بساط المسجدِوبعِ الكنيسةَ فهي مـن أملاكهِ وبعِ المؤذِنِ فـي المـزادِ الأسودِ
ونقرأ في قصيدة "من لاجىء إلى أمه" حنين اللاجىء إلى الوطن، حنين العودة. ومأساة اللاجىء لا تختصر بالحياة السياسية والظلم، فهناك الجانب الاقتصادي أيضا، وقد تطرَّق الشاعر لهذا الموضوع في قصيدة "خبز وزئبق". ففي هذه القصيدة يتوجه الابن إلى أبيه يسأله عن سبب غياب الخبز، فالخبز مصنوع من دقيق وليس من زئبق مناله صعب! وخبز اللاجئين كخبز الآخرين، "فلمـاذا يـا أبـي يهربُ خبـز اللاجئيـنْ؟"فيقول:
يا أبـي يهرب مـن رؤيتنا حتـى الرغيـفْهـرب الأوراق ان مـرّت بها ريـح الخريفْيا أبـي! هـل فمنا يبدو إذا جعـنا مخيـفْ؟ليفر الخبز من رؤيتناأم علـى أفواهنا خطُّوا: حـذار اللاجئيـنْ؟
لكن، لا مجيب. فيتوجه الطفل إلى أمه، فأجابته بجواب رمزي، وما كان من هذا الطفل إلا أن يحمل هذا الجواب ليخاطب أباه به:
إن حبـلا خافيًا يجـذب خبز اللاجئيـن!!
يصف الشاعر حال اللاجئين بالسواد وبجهنم لصعوبة الحياة في قصيدة "أزهار من جهنم"، ومصير اللاجئين الصمت، فلا يجوز للاجىء أن يتكلم أو حتى يتألم، إن فعل فعقابه الجلد والموت أو حتى انتزاع لقمة العيش منه. الصمت هو الوسيلة ليعيش سعيدا في جهنم. وفي هذه الخيام السوداء نفسها يطلعنا الشاعر عن وفاة طفلة أخَّر الأهل دفنها حتى الليل ليأخذوا مخصصاتها:
هـا هنا بالخيمة السـوداء بنت وأبـوهاوفتـاة ٌ لفظت أ نفاسها وما أسعفـوهاكفّنـوها بثياب الليل سودًا، كفَّنـوهادفنـوها فـي ظـلام الليل، سرا دفنوهالينالـوا مؤن الطفلة مـن قـوت جهنم
هذه هي حياة الأزهار/ الأطفال الذي يعيشون في جهنم/ المخيمات، هذه هي حياة اللاجئين. وهذا الوضع السيء منوط بلا شك بالوضع السياسي، فهم من جهنم، أي لاجئين. وقد جعل الشاعر موطن اللاجئين جهنم في أكثر من قصيدة وذلك بسبب العذاب الذي يطغى على حياتهم. ولكن، من جهنم هذه ستُطلق صرخة التحدي، من جهنم هذه ستُطلق الشمس نورها:
ستسير الشمس فـي ركب الحياةِ الذهبيَّهْوسنطفـي بنديِّ الحـب نيـرانَ جهنمْ!
وإذا نعت الشاعر الخيام في القصيدة السابقة بأنها سوداء، جعلها في قصيدة "الخيمة الصفراء" صفراء، وذلك دلالة على المرض، فأخت اللاجىء مريضة في الخيمة، وهو قلق لا ينام:
وتنام أصوات البنادق والنجوم ولا أنام
ويقول:
وأظل أسهر مع خيلات الشقاء إلى الصباح
في قصيدة "كفن" نقرأ الألم الذي ألـمَّ برجل فقد زوجته وأخذ يعتني بولديه في ظروف اقتصادية صعبة، يُطلعنا عليها الشاعر منذ بداية القصيدة:
وأريدُ قميصا لطفلي الصغيـر يكـافح ريـح الشتاء الوَبيلَهوليس بجيبـي سوى ليـرةٍ ككنـز سليمـانَ تبدو جـليله
فاشترى الوالد لابنه الصغير قميصا وعاد إلى كوخه، لولديه، فإذ بابنته الصغيرة مريضة، تلك الصغيرة التي لم تتمالك نفسها، ماتت. فغرق الأب في مرارة مضاعفة، فقدان ابنته من جهة، والتفكير بثمن الموت من جهة أخرى، كيف سيكفِّن جثة ابنته؟! وهذا الطفل الصغير، الذي لا يعي بعد معارك الحياة، ما زال يسأل عن قميص:
أفكـر فـي الجثة ِ البـاردهْ ومن أيـن آتـي لها بالكفـنْ؟!ويذكر طفلـي .. فيسأل: بابا! ألمـا تجـدْ لقميصـي ثمـنْ؟
وما كان من الأب إلا أن يُنكر أمر القميص:
فأذكـرُ أن القميـصَ بجيْبـي ولكنني قلتُ: لا .. لـم أجِـدْويغفو الصغيـر بخـدٍ بليـل وأبقـى وحيد الأسى والكمـدْ
فالقميص الذي في جيب الأب أصبح رداءً للموت:
ويسألنـي الموتُ عـن حقِـهِ وفـي جيبي الحجـةُ المُسْكِتـَهْ
و"سينيا" قصيدة عن طفلة وجدها جنود اسرائيليون في حضن امراة بدوية، مقتولة في معركة سيناء، "سينيا" رمز لألوف الأطفال القتلى:
سينيا مـا أنت طفـلٌ واحـدُ أنت رمـز لألـوف تتعـذبْانت شرق مـؤمن أو جـاحِدُ وجهـه بالـدمِ والنـارِ مخضّبْ
يود الشاعر لو يستطيع أن يموت بدلا من الأطفال:
سينيا! لو يقبل المـوت دمـي ثمـن الأطفـال قـدَّمتُ ليشربْ
الموت في المخيم، موت الأطفال، كان مصدر القلق عند الشاعر، بل عند كل إنسان لم يتجرَّد من إنسانيته.

لم يقف الشاعر ينعي القتلى ويسرد وضع بلاده، بل دعا إلى الثورة، لأنها الوسيلة الوحيدة للتحرّر من جميع القيود المفروضة. في قصيدة "ثائرون" يذكر الشاعر أسباب الثورة؛ ثورة شعب يصرّ على طرد الموت من أرضه. فهو يتحدث عن ثورة ضد القتل والموت؛ الثورة رد فعل لفرد زُرعت في أرضه قبور:
زرعت في قبـور أمته قبـورا فكـيف تريـدُه ألاَّ يثـورا
الثورة من أجل الهناء في الحياة، من أجل النعيم:
إذا لـم تفتح الأزهـار فاها فكـيف نشمُّ فـي الدنيا عبيرًا
وكيف لإنسان يحمل في قلبه روح العدل وكراهية الظلم، أن لا يثور ضد الظلم؟! كيف له أن يسكت والمظلوم يظل مظلوما ولا يحصد عدلا؟!
وإن لـم يحصد المظلـوم عدلاً فكـيف تريـده ألا يثـورا ؟
هذا التحدي نجده أيضا في قصيدة "الثوار ينشدون"، التي تشمل أربعة مقطَّعات: دم، أوراس، باريس والأطفال وتحدي؛ هذه المقطَّعات كتبها الشاعر عن الثورة الجزائرية، الأمر الذي يدل على اهتمامه لما يجري حوله من أحداث قد تساهم في فهم الواقع أكثر. لكن بالرغم من ذلك استطاع الشاعر أن يتجاوز الزمان والمكان في غالبية أبيات المقطَّعات، حيث تنطبق ثورتها على كل شعب يريد التحرر. قال في المقطَّعة الأولى:
سنُفهم الصخرَ إن لم يفهم البشرُ أنَّ الشعـوب إذا هبّت ستنتصـرُ
وفي المقطعة الأخيرة من هذه المجموعة تحتدُّ روح التحدي، فيقول:
مهما صنعتم من النيران نخمدها ألم تروا أننا مـن لفحـها سُمُرُولو قضيتم على الثـوارِ كلهمُ تمرّد الشيخ والعكـازُ والحجـرُ
كتب الشاعر راشد حسين قصيدتين تحملان نفس العنوان "إلى ثائرة" إحداهما وردت في ديوانه الأول "مع الفجر" والأخرى في الديوان الثاني "صواريخ"؛ والقصيدة الأولى التي ذكرها في ديوانه الأول، هي عبارة عن رسالة لأبناء شعبه، حيث كتب الشاعر شعرا معطرا بروح الثورة، لكن لم يجد الشعر مكانا له عند أولئك الذين يسَّمَون بالأغنياء، بالحاكمين وبالصالحين، إنما عند ثائرة. أما القصيدة الثانية والتي تحمل العنوان نفسه "إلى ثائرة .." فهي موجهة للثائرة، للحبيبة، المنشغلة بالحرية والتي تريد تحطيم القيود!
أنـتِ التـي أحـببتُـها وودتُ لـو قبَّـلتُـهافـأجبت: "دعنـي الآن أحطـم هـذه الأسـوارْ! وغـدا يكـون لقـاؤنـا فـي حـانة الأحـرارْ!"
خصَّص راشد حسين أكثر من قصيدة للعمال تحمل أبعادا اجتماعية وسياسية. يعلن الشاعر ثورته على الإقطاع والاستغلال للقوات العاملة، ويدعو إلى التمسك بالأرض، وذلك في قصيدة "ثورة الفلاح". وكتب في قصيدة أخرى بعنوان "إلى عامل"، يشيد بالنضال من أجل حقوق العمال، ورفض الرأسمالية:
وتمـرد الظلـم اللعيـن بجيشِهِ فلطمت وجـه الظلم حين تمرَّدَا
كما دعا إلى وحدة العمال ليقفوا في وجه الظلم والاستغلال الرأسمالي، في هذه القصيدة يبدو تأثره بالأممية بشكل واضح:
وقضية الأجنـاس أنت أثرتَها فاقطع قيود الجنس واهتف منشداأَللـون ليس وإن تعـددَ فارقا فلكم محت بيض الفعـال الأسودافلئن تباينت الوجـوه بلـونها فاهتف معي لون الدماء توحـدَّاإنـي أخ لك حيث كنتَ وإنني لعـدو مـن ظلم الملا واستعبّدا
أما في قصيدة "قصة أول أيار"، يذكر ثورة العمال من أجل التحرر، لأن "حرية الإنسان حقٌّ مطلقُ". التمرد والثورة هما السبيل إلى الحرية:
فـإذا أرادت أمـة حـريةً وتمـردتْ .. فمـرادها سيحققُ!
ثم جعل التاريخ يتساءل حائرا:
"لمن انحنى الطاغوتُ وهو ممزقُ؟ ولمـن أكـف الثائرين تصفقُ؟"فأجابه أيارُ: أنظـر فِتيتـي أو لسْتَ تسمـعُ صوتهم يتدفقُ:"ونحـن اشترينا عيدنا بدمائنا فلـواؤنا الخفاقُ أحمـرُ، ينطقُ!"
وفي قصيدة بعنوان "لغة الأفيون" عبَّر الشاعر عن حال الفلاح الذي خُدع بالوعود، وعود تجار الكلام، باعة الأفيون، ثم صحا فدفن أوضار المذلة.أعلن الشاعر الثورة، وسعى نحو واقع اجتماعي وسياسي آخر، دعا إلى الحرية، فهل تحقَّق من آماله شيء؟ أم ما زالت هناك آفة تعترينا نحن أبناء الشعب، فتُحدِّد من حريتنا؟!
اليـوم جئتُ وكـلنا سجناءُ فمتـى أجيءُ وكـلنا طلقـاءُ
تساءل الشاعر في قصيدته "اليوم جئت" عن إمكانية تعقّل الجهلاء، فالتعقل أساس الانطلاق! هو الدواء لقوم يتمزق شملهم ويتقاتلون على زعامة قرية أو مهمات رئاسة. يطلب من الشعب التحرّك إزاء هذا الوضع، فالشعب النائم لا غد له. على الشعب بالتمرد، وعلى الشباب أن يرفع صوته! لكن هذا وحده لا يكفي، فعلينا تحرير المرأة:
لـن تشرقَ الآمال في أوطاننا إن لـم تُساعـد آدمـا حـواءُفلأُمـةٌ حـواؤها مسجـونةٌ هـي اُمةٌ في سيـرها عـرجاءُ
ويقول:
لقد أوشك الأمواتُ أن يستيقظوا فمتـى سينهضُ عندنا الأحيـاءُ
لم يفارق الأمل والتفاؤل شاعرنا. الأمل، ينتشر في قصيدة "قسم"، إذ أقسم العام أن يمنح الشعب عَلم السِّلم وحلم البشرية! نعم السلام هي أمنية شاعرنا الذي يرى أن كل عام يأتي يكون قليل الابتسام، فهو يريد من العام الجديد السلام، وبهذا يختم قصيدته:
غنِّنـي بالله إن جئـتَ غـدًا قولَ عيسى: وعلى الأرضِ السلامْ
وفي قصيدته "إلى أطفال بلادي" دعا الشاعر إلى العيش بسلام ومحبة. الشاعر ضد القتل، ضد حمل السلاح و"ضد" هو عنوان قصيدة عبَّر من خلالها عن رغبته بالسلم ثم استدرك فقال:
ضد ما شئتم ... ولكنْبعد إحراقِ بلادي ورفاقي وشبابيكيفَ لا تصبحُ أشعاري بنادقْ
فالشاعر لا يحمل السلاح حبا به بل من أجل الثورة! وعنصر التحدي يبدو واضحا أيضا في قصائد أخرى، منها قصيدة "دروس في الإعراب".

هذه الثورة من حسّه الملتزم بقضايا بلاده، من طفل فقد بيتا وأرضا. من جرحه! جرح عميق هي طفولته، لكنها أيضا خنجر وعاصفة، إنها "طفولة ثائرة"، هكذا وصف الشاعر طفولته، ذلك الشاعر الذي عايش الأحداث والظلم منذ طفولته. واختتم القصيدة نفسها "طفولة ثائرة" بقوله:
طفولتـي .. طفـولة الشرق الذي تمـرداولـم يشأ أن يستكـين للأذى مُسْتَعْبَـدافالتهبت أمـواجه ولـم تكـن لتخمـدافحطّـم القيـود عـن يديه والمقيِّـدا
هذه طفولة الشرق، طفولة شعب يقبع تحت الظلم لكنه يناضل. هذا علَم آخر من أرضنا جمع بين الواقع الاجتماعي، السياسي والاقتصادي ودعا إلى تحطيم القيود. رفع قصائده في وجه الظلم.ثلاثة عقود مرت على رحيل الشاعر راشد حسين (توفي في 1/2/1977) ابن قرية مصمص، وأبياته ما زالت تتردد على كل لسان.

No comments: